الحكم الذاتي بين الشرعية الدولية والتجربة المغربية
الحكم الذاتي بين الشرعية الدولية والتجربة المغربية
قراءة تاريخية، سياسية وقانونية بقلم محمد الغمري
🔹 مقدمة
يُعدّ مبدأ الحكم الذاتي أحد أكثر المفاهيم تطورًا في القانون الدولي الحديث، إذ يشكّل جسرًا ذهبيًّا بين مطلب تقرير المصير ووحدة الدولة الترابية. وقد تبنّته الأمم المتحدة كصيغة مرنة لتسوية النزاعات الترابية، خصوصًا في الحالات التي تتقاطع فيها اعتبارات السيادة الوطنية مع الخصوصية المحلية.
وفي هذا الإطار، يبرز النموذج المغربي للحكم الذاتي في أقاليمه الجنوبية كأحد أكثر المشاريع واقعيةً ونضجًا، من حيث الأساس التاريخي والسياسي، ومن حيث توافقه مع مقتضيات الشرعية الدولية.
---
🔹 أولًا: الجذور التاريخية المغربية للحكم الذاتي
منذ قرون، بَنى المغرب نظام حكم متميّز عن باقي الكيانات في المنطقة. فـ البيعة الشرعية التي تربط القبائل بالسلطان لم تكن علاقة خضوع إداري، بل عقدًا سياسيًّا يقوم على الولاء مقابل الحماية.
ففي الصحراء المغربية، كانت قبائل مثل الركيبات، أولاد دليم، أيت لحسن، أيت أوسى، وبني سباع تبايع السلطان وتشارك في الدفاع عن الدولة، مع احتفاظها بإدارة شؤونها الداخلية: القضاء، توزيع المياه، الرعي، وحتى الأمن المحلي.
هذا النمط من الاستقلال المحلي ضمن السيادة المركزية يشكّل في جوهره صيغةً مغربية تقليدية للحكم الذاتي قبل أن تُعرف بهذا المصطلح في القانون الدولي.
---
🔹 ثانيًا: البعد السياسي في المشروع المغربي
في سنة 2007، قدّم المغرب رسميًا إلى الأمم المتحدة مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية كحلٍّ نهائي للنزاع المفتعل حول الصحراء.
المبادرة لم تأتِ من فراغ، بل جاءت بعد سنوات من اللامركزية والجهوية المتقدمة التي تبنّاها الملك محمد السادس، في سياق تحديث الدولة المغربية وإعادة توزيع السلطة والموارد.
من الناحية السياسية، تضمّنت المبادرة:
1. برلمانًا محليًّا منتخبًا بإشراف الدولة المغربية.
2. حكومة جهوية تُدبّر الشؤون المحلية (الاقتصاد، الثقافة، البيئة...).
3. اختصاصات سيادية حصرية تبقى في يد الدولة المركزية (الدفاع، الأمن، العلاقات الخارجية، العملة).
وهذه المكونات تطابق ما تُقرّه الأمم المتحدة كنموذج حديث للحكم الذاتي الحقيقي.
---
🔹 ثالثًا: الأساس القانوني الدولي
القانون الدولي لا يربط تقرير المصير بالضرورة بالانفصال، بل يُقرّ بأنّ الحكم الذاتي أحد أوجه ممارسة هذا الحق داخل الدولة الأم.
قرارات الأمم المتحدة، خاصة القرار 1514 (1960) و 2625 (1970)، أكّدت أن ممارسة تقرير المصير يجب أن تراعي وحدة الدول وسيادتها.
كما أن محكمة العدل الدولية، في رأيها الاستشاري سنة 1975 حول الصحراء، أقرت بوجود روابط بيعة قانونية بين القبائل الصحراوية والعرش المغربي.
وبذلك، فإن مبادرة الحكم الذاتي المغربية تستجيب تمامًا للمعايير القانونية الدولية:
احترام السيادة – إشراك السكان – تمكينهم من تسيير شؤونهم بأنفسهم – في إطار الدولة.
---
🔹 رابعًا: تجارب دولية مشابهة
لفهم عمق التجربة المغربية، يمكن مقارنة مبادرتها مع تجارب مشابهة:
جزر الآزور وماديرا (البرتغال): تتمتعان بحكم ذاتي واسع مع برلمان محلي ضمن وحدة الدولة البرتغالية.
أقاليم الأندلس وكاتالونيا (إسبانيا): لها حكومات محلية وبرلمانات دون المساس بالسيادة الإسبانية.
غرينلاند وجزر الفارو (الدانمارك): نموذج متقدّم لحكم ذاتي ضمن الدولة الأم، مع صلاحيات تشريعية واسعة.
هذه النماذج، التي تحظى باعتراف الأمم المتحدة، تُظهر أن الحكم الذاتي هو حلّ حضاري متوازن يحقق التنمية والاستقرار ويحمي وحدة الدولة.
---
🔹 خامسًا: البُعد الاستراتيجي للمغرب
المغرب لم يطرح الحكم الذاتي كتكتيك سياسي، بل كـ مشروع دولة ينسجم مع فلسفة الجهوية الموسعة، ومع رؤية الملك محمد السادس لبناء مغرب موحّد قوي بالأقاليم.
فهو لا يمنح الصحراء امتيازًا خاصًا، بل يجعل منها نموذجًا يمكن تعميمه على باقي الجهات، في إطار لامركزية متقدمة تُحقق العدالة المجالية والتنمية المتوازنة.
---
🔹 خاتمة
الحكم الذاتي المغربي ليس تنازلًا، بل تعبير عن قوة الدولة وثقتها في ذاتها.
هو امتدادٌ لتاريخ البيعة، وتأصيلٌ لمبدأ المشاركة في القرار المحلي، وتجسيدٌ للسيادة في قالب حداثي.
وبين الأمس واليوم، أثبتت التجربة المغربية أنّ الواقعية السياسية عندما تلتقي مع الشرعية التاريخية والقانونية، تُنتج الحلول الذكية التي تعجز عنها البنادق.

ليست هناك تعليقات